بين خطاب الحقوق وخطاب الواجبات: كيف نعيد للأسرة توازنها التشريعي؟
بقلم المستشار القانوني
إذا كانت الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، فإن اختلال توازنها القانوني، لا يُنتج فقط حالة من الظلم الفردي، بل يُنذر بمجتمع هش، مفتّت، تتراجع فيه قيمة الانتماء، وتنحسر فيه سلطة التربية، وتتحوّل فيه الشراكة إلى صراع.
ما أفرزته قوانين الأحوال الشخصية في صورتها الحالية، وفي بعض تطبيقاتها العملية، لا يمكن إنكاره: ميل واضح تجاه تأنيث الحماية، وتذكير المسؤولية. فالمرأة تُقدَّم دومًا بوصفها الطرف الأضعف المستحق للرعاية والحضانة والسكن والنفقة، بينما يُتوقع من الرجل أن يتحمل الكلفة الكاملة للبيت – ماليًا وقانونيًا – حتى لو لم يكن شريكًا في القرار أو التربية أو الرعاية.
لكن العدالة ليست دعمًا مطلقًا لطرف، بل ميزانًا لا يميل إلا للحق.
1. أزمة القوامة القانونية لا القوامة الأخلاقية
القوامة، وفقًا للنص الشرعي، ليست استعلاءً بل مسؤولية، ومع ذلك، فإن معظم قوانين الأحوال الشخصية اليوم لم تُعِد تعريف القوامة بما يضمن للرجل دوره في اتخاذ القرار التربوي أو الإداري داخل الأسرة، بل اكتفت بجعله ممولًا. لم تُتح له أداة قانونية لمحاسبة زوجته إن أخلّت بدورها، ولم تُمنح له الحضانة إلا في نهاية سلم طويل من المستبعدين، رغم أن الأب في الشريعة – والواقع – هو صاحب الولاية الأصيلة على التربية.
القانون – كما هو مطبق حاليًا – يجعل الأب مجرد طرف مالي في معادلة الرعاية، يُطالب بالنفقة والتعليم والعلاج، بينما يُحرم من المتابعة أو الإشراف، أو حتى من الاعتراض على قرارات تمس حياة أولاده.
2. سقوط مبدأ “المسؤولية المشتركة”
الأسرة، بحسب المبدأ الدستوري، “قائمة على المسؤولية المشتركة”، لكن الواقع يروي غير ذلك. فعند الطلاق، تُجرد العلاقة من هذه الشراكة. الزوج يدفع، وتُمنح الزوجة وحدها الحضانة والسكن، وقد يُمنع الرجل من رؤية أبنائه خارج ساعات الرؤية المجتزأة، أو يُعاقب إذا حاول إقناع ابنه بالبقاء معه، بينما لا تُحاسب الحاضنة إذا منعت الرؤية، أو حرضت الطفل على والده.
ببساطة، تحوّلت “الشراكة” إلى التزام أحادي الجانب، لا يجد له توازنًا في المحكمة، ولا دعمًا اجتماعيًا، ولا حتى صوتًا تشريعيًا يُطالب بحقه.
3. الحاجة إلى تجديد تشريعي عادل ومتزن
إصلاح منظومة الأسرة لا يتم إلا عبر مراجعة تشريعية تُعيد تعريف الأدوار، وتُعزز المفهوم التشاركي للسلطة داخل الأسرة، وتُعطي لكل طرف أدواته القانونية للحماية.
نقترح هنا عددًا من المبادئ التشريعية التي لا تميل لطرف، بل تُعيد بناء الأسرة على قواعد أكثر عدلاً:
• إعادة النظر في ترتيب الحضانة بما يتيح للأب دورًا مباشرًا في التربية، لا فقط عند فشل الطرف الآخر.
• تقنين عقوبات حقيقية لعدم تنفيذ أحكام الرؤية، كما تُنفذ النفقة والسكن.
• ربط النفقة بالقدرة الفعلية على الدفع لا بالتقديرات النظرية، مع ضرورة إشراك الطرف الحاضن في الإنفاق.
• إقرار مبدأ تقاسم المسؤوليات المالية والرعائية للأبناء، خاصة حين تكون الأم عاملة أو ميسورة.
• إعادة تعريف الطاعة بما يعكس الاحترام المتبادل، لا الإذعان أو الابتزاز.
• تشجيع الوساطة الأسرية قبل التصعيد القضائي، بما يُعيد للعلاقة بعضًا من التفاهم قبل أن تتحول لمعركة.
4. إصلاح الخطاب الإعلامي والمجتمعي
ليس القانون وحده مسؤولًا، فالمجتمع يضرب الرجل إن اشتكى، ويسخر منه إن انهار، ويُطالبه بالرجولة في كل لحظة… ثم لا يحميه حين يُهان أو يُجرد من حقوقه. لقد آن الأوان لتجديد الخطاب حول الرجولة، الأبوة، الشراكة، بما يليق بهذه الأدوار العظيمة، لا بما يُفرغها من معناها.
ختاما ..
نحن لا نُطالب بإلغاء حقوق المرأة، ولا بإعادة إنتاج مظالم قديمة، بل نُطالب بـ”عدالة متوازنة” تُعيد للأسرة ثقلها، وتُنقذ الطفل من أن يكبر في بيت ممزق، أو في ظل صورة أب مهزوز، أو أم مظلومة.
الأسرة ليست ساحة معركة، بل ساحة بناء… ولا يُبنى البيت إلا إذا كان العدل أساسه، والقانون حامي توازنه، لا باعث اختلاله.