تقييد الإنفاق الزوجي… حين يتحوّل الزوج من شريك حياة إلى كفيل دائم بلا حقوق
بقلم المستشار القانوني - مجموعة الوصل القانونية
في اللحظة التي يُقبل فيها رجل على الزواج، يظن أن دوره كشريك حياة سيُقابله احتضان، مشاركة، تقدير. لكنه ما يلبث أن يكتشف ـ في ظل المنظومة القانونية والاجتماعية المعاصرة ـ أن دوره قد تحوّل إلى ضامن مالي لا صوت له، مُطالب بالإنفاق في جميع الأحوال، في الرضا والخلاف، في الغياب والحضور، بل وأحيانًا حتى بعد انتهاء الزواج.
قانون الأحوال الشخصية في مصر، المستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية، أوجب على الزوج الإنفاق على زوجته وأولاده. هذا لا جدال فيه. لكنه لم يوجب عليه أن يُعامل وكأنه بنك، أو جهة تمويل، أو حساب مصرفي متاح دائمًا للطرف الآخر دون ضوابط. غير أن الواقع العملي، والتطبيقات القضائية، بل والثقافة المجتمعية السائدة، دفعت الأمور إلى هذه الهوّة الخطيرة.
من شريك إلى “ATM” قانوني
الرجل في ظل المنظومة الحالية لا يُسأل عن ظروفه الاقتصادية، ولا عن مدى التزام الطرف الآخر. بل هو فقط مطالب بالإنفاق، حتى وإن امتنعت الزوجة عن المعاشرة، أو خرجت من بيت الزوجية، أو امتنعت عن رعاية الأطفال، أو حرضتهم عليه. لا يُؤخذ كل ذلك بعين الاعتبار في الكثير من الدوائر القضائية، ويُفصل الإنفاق عن الواقع الفعلي للأسرة.
هل هذا يعني أن المرأة بلا حقوق؟ بالطبع لا. لكن الخلل يكمن في اختزال واجبات الرجل في التمويل فقط، دون أن يقابله أي تقييم لسلوك الطرف الآخر أو التزاماتها الأخلاقية أو التربوية أو حتى القانونية.
القضاء بين النص والواقع
في كثير من الأحيان، تُقدَّر النفقة بناءً على مفردات مرتب الرجل فقط، أو على أسلوب معيشته السابقة، دون مراعاة لحجم التزاماته الأخرى، أو الأزمات المالية التي قد يمر بها، أو تغير دخله. وكأن دخل الرجل حق ثابت للطرف الآخر، لا يرتبط بمجهوده أو تحولات حياته.
ويُسمح للمرأة برفع دعاوى متكررة للمطالبة بزيادة النفقة، ودعاوى حبس إن تأخر، وأخرى للحصول على مصروفات مدارس، وعلاج، وملابس، وإيجار مسكن حاضنة… حتى وإن تجاوز إجمالي المبالغ قدرة الرجل بسنوات ضوئية. في المقابل، لا يمكنه الطعن في سلوكها، أو المطالبة بحقه في رؤية الأطفال مقابل هذا الإنفاق، أو حتى إيقاف النفقة إذا ثبت تعسفها… إلا بشق الأنفس.
المنظومة النفسية للتعامل مع الرجل
الأخطر من ذلك أن الرجل أصبح يعاني نفسيًا، لأن القانون لا يُقدّر ما يمر به من ضغوط، ولا يُنصفه عند العسر. بل تُعلّق عليه اتهامات بالإهمال، والتنصل، والتهرب، وهو قد يكون عاطلًا أو مريضًا أو مديونًا. وهذا الضغط النفسي المتراكم يدفعه أحيانًا إلى العزوف عن الزواج من الأساس، أو التردد في اتخاذ خطوات أسرية جادة، لأنه يعرف أن القانون لن يُراعيه إن تغيّرت الأحوال.
الرؤية والإنفاق… معادلة غير متكافئة
أسوأ ما في المشهد أن الإنفاق لا يمنح الرجل حقًا مقابلًا. فلا رؤية مؤكدة، ولا علاقة مستمرة مع أطفاله، ولا حتى احترام لإنفاقه. يُعامل وكأنه “واجب الدفع” فحسب. بل هناك من الأمهات من تستعمل النفقة كوسيلة ضغط أو انتقام، وليس وسيلة رعاية للأسرة.
وهنا، تفقد الأسرة توازنها. فالمرأة التي تحصل على النفقة دون التزام، والرجل الذي يُجبر على الدفع دون تقدير، لن يؤسسا بيتًا متزنًا، ولن يُربّيا أطفالًا يشعرون بالأمان أو الاحترام المتبادل.
هل هناك حل؟
نعم، لكن البداية تبدأ من إعادة ضبط فهمنا للنفقة:
• النفقة التزام… لكنها ليست إذلالًا.
• واجب الرجل في الإنفاق لا ينبغي أن يُنفصل عن سلوك الطرف الآخر.
• التوازن مطلوب… كما تُحمّل الزوج المسؤولية، يجب تحميل الزوجة التزامات.
• الرؤية ليست هبة تُمنح، بل حق قانوني يقابل النفقة.
• السلطة التقديرية للقاضي يجب أن تُفعّل بمرونة لصالح العدالة، لا فقط لصالح ما اعتيد عليه.
الختام .. إن تقييد الرجل بمنطق الدفع الإجباري وحده، دون تفكير في ظروفه، أو سلوكه، أو تبعات ذلك على صحته النفسية ومكانته الاجتماعية، يُنتج أسرة غير مستقرة، وأبًا مقهورًا، وأطفالًا ينشأون على صورة ظالمة للأب. وهذا لا يخدم أحدًا… لا المجتمع، ولا المرأة، ولا العدالة.
فالإنفاق حق للمرأة، نعم، لكنه يجب أن يكون في إطار من العدالة لا الاستغلال، ومن الشراكة لا الإكراه. فالرجل الذي يُحب أسرته، ويُنفِق عليها، يستحق الاحترام… لا الاتهام.