الزوجة والسوشيال ميديا… متهمة أم مجنيّ عليها؟

بقلم المستشار القانوني 

في إحدى الجلسات الأسرية التي كنت حاضرًا فيها كمستشار قانوني، نظرت إليّ سيدة في العقد الثالث من عمرها، وقالت بمرارة: “كل مشكلتنا بدأت من منشور على فيسبوك… منشور بسيط جدًا، لكنه خلاني أحس إن زوجي مش ليا لوحدي”. لم تكن تلك المرة الأولى التي أسمع فيها هذا النوع من العبارات، لكنها كانت الأكثر وضوحًا في التعبير عن الشكل الجديد للعلاقات الزوجية في زمن السوشيال ميديا؛ زمن لا تخون فيه الأجساد فقط، بل تُستبدل فيه المشاعر عبر التفاعل والقلوب الإلكترونية.

لم تعد الحياة الزوجية تدور فقط في حدود أربعة جدران، ولم يعد الشريك يعرف شريكه كما كان قبل عقدين من الزمن. اليوم، يُمكن لأي طرف أن يعيش حياة موازية تمامًا عبر الشاشة الصغيرة؛ حياة أكثر انطلاقًا، أقل التزامًا، وأحيانًا… أكثر صدقًا من الحياة الواقعية. وهنا تبدأ الأزمة.

الرجل لم يعد مجرد زوج أو أب، بل أصبح حسابًا على إنستغرام يُتابعه الآخرون، أو اسمه متكرر في تعليقات نساء أخريات. والمرأة، التي كانت بالأمس تطهو وتعدّ الغداء، باتت تمضي نصف يومها في مراقبة آخر تفاعلات زوجها، وتفسير كل “إعجاب” و”إيموجي” وتفاعل كما لو كانت في لجنة تحقيق. لكن الأخطر من ذلك، أن كل طرف لا يجرؤ على الاعتراف بأن هناك نوعًا جديدًا من الانفصال قد بدأ فعليًا قبل أن ينطق القاضي بكلمة “طلاق”؛ انفصال داخلي، صامت، يتسلل دون ضجيج… تمامًا كما يتسلل الضوء من شقوق الستائر.

الزوجة، التي تشعر أن هناك امرأة أخرى في حياة شريكها، لا تملك دليلًا مادّيًا، لكنها تملك إحساسًا داخليًا صارخًا بأن شيئًا ما قد تغير. والزوج، الذي يجد في هاتفه متنفسًا، لا يرى أنه خان، بل فقط “تسلى” قليلًا. لكنه لا يدرك أنه في كل مرة يتفاعل فيها مع حساب أنثى غريبة، إنما يُطفئ شمعة من شمعات الثقة بينه وبين زوجته. ومن هنا تبدأ المعركة غير المرئية.

الواقع أن القانون لم يُشرّع بعد لهذا النوع من الخيانة. لا يوجد في قانون الأحوال الشخصية مادة عنوانها “الطلاق بسبب فيسبوك”، ولا يوجد نص واضح يُجرّم الزوج الذي تواصل رقميًا مع أخرى. لكن ما يحدث فعليًا في المحاكم يشير إلى أن القضاة بدأوا يعترفون بهذا النوع من الضرر. كم من دعوى خُلع قُدمت بسبب محادثات إلكترونية؟ وكم من طلب تطليق كان سببه صورة أعاد الزوج نشرها، أو منشور كتبته الزوجة يتحدث عن “تحررها” من القيود الأسرية؟! إنها حرب خفية، تُخاض بكلمات ناعمة، وصور مُنمّقة، لكنها تُخلّف بيوتًا مهدومة وقلوبًا محطمة.

في إحدى القضايا، قدمت الزوجة للمحكمة ملفًا يحوي مئات الصور والتعليقات والمحادثات لزوجها، وقالت بثقة: “هذه ليست مجرد منشورات، هذه خيانة موثقة”. لم تضحك القاضية. بل نظرت في الأوراق بجدية، وسألت: “هل ترتب على هذه الأفعال ضرر نفسي واضح؟”، فأجابت الزوجة: “أنا لم أعد قادرة على النظر في وجهه دون أن أرى كل هؤلاء النساء بيننا”. لم يكن هذا حوارًا دراميًا في مسلسل رمضاني، بل مشهدًا حقيقيًا من جلسة في إحدى محاكم الأسرة، تُعبّر تمامًا عن العصر الذي نعيش فيه.

العلاقات الزوجية اليوم تُدار بشفافية مفرطة، لا تأتي من الصدق… بل من الانكشاف الإلكتروني. وما كان يُخفى في السابق، أصبح الآن ظاهرًا، بل ومتاحًا في العلن. حسابات مفتوحة، تعليقات متكررة، تفاعل لا ينتهي، وشعور دائم بأن “الطرف الآخر” ليس حاضرًا معنا فحسب، بل هو أيضًا حاضر مع آخرين.

وإذا كان القانون لا يزال يدرس كيف يتعامل مع هذه الوقائع، فإن المجتمع لم يتأخر في إصدار أحكامه. فالمرأة أصبحت تحاكم زوجها قبل القاضي، والرجل يشعر أنه مراقب قبل أن يُخطئ. وهكذا… تتحول الحياة الزوجية إلى معركة من الشكوك والتجسس والتأويل، تنهك القلوب وتُصيب العلاقة بالشيخوخة المبكرة، وليس الحل في غلق الحسابات أو حذف التطبيقات، بل في إعادة ضبط مفاهيم “الخصوصية” و”الاحترام” و”الحدود” داخل العلاقة. فالسوشيال ميديا لم تخترع الخيانة، لكنها فقط أتاحت لها منصة أبسط، وأوسع، وأكثر جاذبية. ولذلك، من لم يُحصّن علاقته بالثقة والتفاهم… سيجد نفسه يحيا حياة زوجية ظاهرها التواصل وباطنها الطلاق النفسي، حتى وإن عاشا معًا في بيت واحد.

ما لم ندركه بعد هو أن الخيانة الرقمية أصبحت وجهًا جديدًا من أوجه الانفصال العاطفي، وأن الطلاق في العصر الحديث لا يحتاج دائمًا إلى قاضٍ… يكفي أن يبدأ الشك، وتغيب المصارحة، وتُغلق الهواتف في غرفتين منفصلتين، بدلًا من أن تكون الحياة في بيت واحد، بشاشة واحدة، وقلبين يُخاطبان بعضهما… لا العالم الخارجي.


مجموعة الوصل القانونية ، محامون متخصصون في قضايا الأحوال الشخصية بخبرات تمتد لسنوات، ومئات القضايا الناجحة، ومواقف تفاوضية حساسة تُدار بأقصى درجات التحكّم والسيطرة النفسية.
نسعد دائما بتواصلكم معنا
العنوان: جمهوريه مصر العربية - الجيزة - الشيخ زايد - سنترادا مول، مكتب201

جميع الحقوق محفوظة © 2025 مجموعة الوصل القانونيه
تم التطوير بشركة لوجيك نيد ذ.م.م
Logic Need Co., LTD