الفجوة التربوية بين الأم والأب: من يزرع الوعي؟
بقلم المستشار – مجموعة الوصل للمحاماة
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الاجتماعية والتكنولوجية، وتتمدد فيه الأدوار التقليدية لتتداخل مع متطلبات الواقع الحديث، لم تعد الأسرة مجرّد نواة اجتماعية قائمة على توزيع الأدوار بالمفهوم التقليدي. بل باتت ساحة تفاوض خفيّة — وأحيانًا صاخبة — حول من يملك الصوت الأعلى في توجيه الأبناء وتشكيل وعيهم، خصوصًا بين الأم والأب.
لقد نشأ جيل كامل في ظل تغيّر ملموس في ملامح السلطة التربوية داخل المنزل. ففي الوقت الذي كان يُنظر فيه إلى الأب على أنه الموجه العام وصاحب السلطة الأخيرة، أصبحت الأم — بفعل الظروف والواقع — هي الطرف الأقرب إلى تفاصيل الطفل اليومية، ومعها امتلكت نفوذًا تدريجيًا في صناعة الوعي والتوجيه، وفي أحيان كثيرة: الانفراد الكامل به.
هذه الفجوة التربوية لم تولد من فراغ. إنها نتيجة لتراكمات متشابكة بين تغييب دور الأب بفعل انشغالاته الاقتصادية، وبين تضخم دور الأم الذي تغذّيه مؤسسات إعلامية وخطابات مجتمعية تميل لمنحها دورًا مطلقًا غير قابل للنقد، تحت عناوين “الأم المثالية” أو “بطلة التربية”.
لكن السؤال الجوهري هنا: من يزرع الوعي فعلًا؟
وهل الوعي مسؤولية عاطفية، أم مشروع تربوي متكامل يستند إلى تقاسم معرفي وقيمي بين الأم والأب؟
الواقع أن انفراد أحد الطرفين بزرع القيم دون الآخر يُنتج وعياً مبتورًا، ناقصًا، أو مشوّهًا. فالأب — بحكم موقعه الاجتماعي وخبرته في الاحتكاك الخارجي بالعالم — يحمل في الغالب قيم الانضباط، والمسؤولية، واحترام النظام العام. أما الأم — بما لها من قرب وجداني وتفرغ نسبي — فتغرس قيم العاطفة، والرحمة، والرعاية.
وعندما تنشأ الفجوة، لا تُفقد القيم وحدها، بل تتشوه الشخصية الناشئة، فيتربى الطفل إما على الخضوع العاطفي الزائد دون وعي حدودي، أو على القسوة والاستقلال المزيف إذا غاب الاحتواء.
المؤسف أن هذه الفجوة تتحول في بعض البيوت إلى ساحة صراع خفي، فترى الأم تهمش رأي الأب بدعوى قربها من الأطفال، أو يستنكف الأب عن الانخراط بحجة الانشغال أو “عدم التفرغ للثرثرة التربوية”، والنتيجة: طفلٌ يُربّى بنصف مشروع، يتشرب التناقضات، ويعيش في غموض تربوي مزمن.
قانونًا، لا توجد مادة تُلزم الأبوين بتقاسم الأدوار التربوية، لكن المحكمة دائمًا تنظر إلى “مصلحة الطفل الفضلى” في جميع الإجراءات. ولو فهمنا هذه العبارة جيدًا، لعرفنا أن المصلحة لا تكتمل بوجود أحد الطرفين فقط، بل بتكاملهما.
إن “زرع الوعي” ليس قرارًا يوميًا، بل مشروع طويل الأمد، يتطلب من الأب أن يكون شريكًا فعليًا في تفاصيل التربية، ومن الأم أن تسمح لهذا الشريك بالمساهمة، لا أن تحتكر الساحة بدافع الحب أو الحماية.
الوعي لا يُغرس من طرف واحد، بل من لقاء طرفين، يحمل كل منهما ما لا يحمله الآخر.
وإذا كان الطفل هو المستقبل، فإن إدارة هذا المستقبل لا تُترك لعاطفة واحدة، ولا لعقلٍ منفرد… بل لأسرة تعرف أن الشراكة التربوية ليست رفاهية، بل ضرورة وجود.